فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وانتصب {أربعين} على الحال بتأويل: بالغًا أربعين.
والميقات قيل: مرادف للوقت، وقيل هو وقت قدّر فيه عمل مّا، وقد تقدم في قوله تعالى: {قل هي مواقيت للناس والحج} في سورة البقرة (189).
وإضافته إلى {ربه} للتشريف، وللتعريض بتحميق بعض قومه حين تأخر مغيب موسى عنهم في المناجاة بعد الثلاثين، فزعموا أن موسى هلَك في الجبَل كما رواه ابن جُريج، ويشهد لبعضه كلام التوراة في الإصحاح الثاني والثلاثين من سفر الخروج.
أي: قال موسى لأخيه عند العزم على الصعود إلى الجبل للمناجاة فإنه صعد وحدَه ومعه غلامُهْ يُوشعُ بنُ نَون.
ومعنى {اخلْفني} كُنْ خلَفًا عني وخليفة، وهو الذي يتولى عمل غيره عند فقده فتنتهي تلك الخلافة عند حضور المستخلَف، فالخلافة وكالة، وفعْلُ خَلَف مشتق من الخَلْف بسكون اللام وهو ضد الإمام، لأن الخليفة يقوم بعمل مَن خَلَفَه عند مغيبه، والغائِب يَجعل مكانَه وراءَه.
وقد جمع له في وصيته ملاك السياسة بقوله: {وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} فإن سياسة الأمة تدور حول مِحور الإصلاح، وهو جعل الشيء صالحًا، فجميعُ تصرفات الأمة وأحوالها يجب أن تكون صالحة، وذلك بأن تكون الأعمال عائدة بالخير والصلاح لفاعلها ولغيره، فإن عادت بالصلاح عليه وبضده على غيره لم تعتبر صلاحًا، ولا تلبث أن تؤول فسادًا على مَن لاحت عنده صلاحًا، ثم إذا تردد فعلٌ بين كونه خيرًا من جهة وشرًا من جهة أخرى وجب اعتبار أقوى حالتيه فاعتُبر بها إن تعذر العدول عنه إلى غيره مما هو أوفرُ صلاحًا، وإن استوى جهتاه ألغي إن أمكَنَ إلغاؤُه وإلاّ تخيّر، وهذا أمر لهارون جامع لما يتعين عليه عمله من أعماله في سياسة الأمة.
وقوله: {ولا تتبع سبيل المفسدين} تحذير من الفساد بأبلغ صيغة لأنها جامعة بين نَهي والنهي عن فعل تنصرف صيغته أول وهلة إلى فساد المنهي عنه وبينَ تعليق النهي باتباع سبيل المفسدين.
والإتباع أصله المشي على حلف ماش، وهو هنا مستعار للمشاركة في عمل المفسد، فإن الطريق مستعار للعمل المؤدي إلى الفساد والمفسِد من كان الفساد صفتَه، فلما تعلق النهي بسلوك طريق المفسدين كان تحذيرًا من كل ما يستروح منه مآل إلى فساد، لأن المفسدين قد يعملون عملًا لا فساد فيه، فنُهي عن المشاركة في عمل من عُرف بالفساد، لأن صدوره عن المعروف بالفساد، كاففٍ في توقع إفضائه إلى فساد.
ففي هذا النهي سد ذريعة الفساد، وسَد ذرائع الفساد من أصول الإسلام، وقد عني بها مالك بن أنس وكررها في كتابه واشتهرت هذه القاعدة في أصول مذهبه.
فلا جرم أن كان قوله تعالى: {ولا تتبع سبيل المفسدين} جامعًا للنهي عن ثلاث مراتب من مراتب الإفضاء إلى الفساد وهو العمل المعروف بالانتساب إلى المفسد، وعمل المفسد وإن لم يكن مما اعتاده، وتجنبُ الاقتراب من المفسد ومخالطته.
وقد أجرى الله على لسان رسوله موسى، أو أعلمه، ما يقتضي أن في رعية هارون مفسدين، وإنه يوشك إن سلكوا سبيل الفساد أن يسايرهم عليه لما يعلم في نفس هارون من اللين في سياسته، والاحتياط من حدوث العصيان في قومه، كما حكى الله عنه في قوله: {إن القوم استضعفوني وكادوا يقتُلونني} [الأعراف: 150] وقوله: {إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل} [طه: 94].
فليست جملة: {ولا تتبع سبيل المفسدين} مجرد تأكيد لمضمون جملة {وأصلح} تأكيدًا للشيء بنفي ضده مثل قوله: {أموات غير أحياء} [النحل: 21] لأنها لو كان ذلك هو المقصَد منها لجُرّدت من حرف العطف، ولاقتصر على النهي عن الإفساد فقيل: وأصلح لا تفسد، نعم يحصل من معانيها ما فيه تأكيد لمضمون جملة: {وأصلح}. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}.
وعلمنا من قبل في مسألة الأعداد أن هناك أسلوبين: الأسلوب الأول إجمالي، والثاني تفصيلي؛ فمرة يتفق التفصيل مع الإِجمال، وبذلك لا توجد شبهة أو إشكال، وسبحانه في سورة البقرة يقول: {وَإِذْ وَاعَدْنَا موسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً...} [البقرة: 51].
جاء بها هناك بالإِجمال. لكنه شاء هنا في سورة الأعراف ألا يأتي بها مرة واحدة مجملة. بل فصلها بثلاثين ليلة ثم أتمّها الحق بعشر أخر لمهمة سنعرفها فيما بعد، ليكون الميقات قد تم أربعين ليلة، وإذا جاء العدد مجملًا مرة، ومفصلًا مرة، واتفق الإِجمال مع التفصيل فلا إشكال. لكن إذا اختلف الإِجمال عن التفصيل فعادة يُحْمَل التفصيل على الإِجمال، لأن المفصَّل يمكن أن يتداخل ليصير إلى الإِجمال.
وضربنا من قبل المثل في خلق السماء والأرض في ستة أيام، وكل آيات الخلق تأتي بخبر الستة أيام وهي مجملة. لكنه شاء سبحانه في موضع آخر بالقرآن أن يقول: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ العالمين * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ} [فصلت: 9- 10].
وظاهر الأمر هنا أن المهمة قد اكتمل أمرها وخلقها في ستة أيام، لكنه قال جل وعلا بعدها: {ثُمَّ استوى إِلَى السماء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ..} [فصلت: 11- 12].
وهنا في موقف أيام خلق الدنيا نجد إجمالًا وتفصيلًا، والتفصيل يصل في ظاهر الأمر بأيام الخلق إلى ثمانية، والإِجمال يحكي أنها ستة أيام فقط.
فهل هي ستة أيام أم ثمانية أيام؟ نقول: إنها ستة أيام لأننا نستطيع أن ندخل المفصل بعضه في بعضه، فإذا قلت: سافرت من مصر إلى طنطا في ساعتين، وإلى الإِسكندرية في ثلاث ساعات، فمعنى هذا القول أن الساعتين دخلتا في الثلاث الساعات: {وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ}.
والوعد هو أن الله وعد موسى بعد أن تحدث عملية إنجاء بني إسرائيل أنه سبحانه سينزل عليه كتابًا يجمع فيه كل المنهج المراد من خلق الله لتسير حركة حياتهم عليه، لكن ما إن ذهب موسى لميقات ربه حتى عبدوا العجل، في مدة الثلاثين يومًا ولم يشأ الله أن يرسل موسى بعد الثلاثين يومًا بل أتمها بعشر آخر حتى لا يعود موسى ويرى ما فعله قومه؛ لأنه بعد أن عاد أمسك برأس أخيه يعنفه ويشتد عليه ويأخذ بلحيته يجره إليه إذ كيف سمح لبني إسرائيل أن يعبدوا العجل. وفي ذلك يقول الحق على لسان هارون: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه: 94].
فكأن العشرة أيام زادوا عن الثلاثين يومًا ليعطيك الصورة الأخيرة الموجودة في سورة البقرة.
وهنا يقول الحق في سورة الأعراف: {وَقَالَ موسى لأَخِيهِ هَارُونَ اخلفني فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين} [الأعراف: 142].
و{اخلفني} أي كن خليفة لي فيهم إلى أن أرجع وذلك فيما هو مختص بموسى من الرسالة فاستخلاف موسى لهارون ليس تكليفًا لهارون بامتداد إرسال الله لموسى وهارون، فأسلوب تقديم موسى وهارون أنفسهما لفرعون جاء بضمير التثنية التي تجمع بين موسى وهارون: {إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ...} [طه: 47].
لأن كلًا منهما رسول، وقول الحق: {وَقَالَ موسى لأَخِيهِ هَارُونَ} فيه التحنن، أي أنني لي بك صلة قبل أن تكون شريكًا لي في الرسالة فأنا أخ لك وأنت أخ لي، ومن حقي عليك أن تسمع كلامي وتخلفني. فالأخوة مقرونة بأنك شريك معي في الرسالة إذن نجد أن موسى قد قدم حيثية الأخوة والمشاركة في الرسالة. وأكد موسى عليه السلام بكلمة {قومي} أنهم أعزاء عليه، ولا يريد بهم إلا الخير الذي يريده لنفسه، فإذا جاءكم بأمر فاعلموا أنه لصالحكم، وإذا نهاكم نهيّا فاعلموا أن موسى هو أول من يطبقه على نفسه.
وقيل كان موسى عليه السلام قد قام بإعداد نفسه للقاء ربه، ولابد أن يكون الإِعداد بطهر وبتطهير وبتزكية النفس بصيام، فصام ثلاثين يومًا، وبعد ذلك أنكر رائحة فمه، فأخذ سواكًا وتسوك به ليذهب رائحة فمه، فأوضح الحق سبحانه له: أما علمت يا موسى أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك. وما دمت قد أزلت الخلوف وأنا أريد أن تقبل عليّ بريح المسك فزد عشرة أيام؛ حتى تأتي كذلك. وقال بعض العلماء: إن تفصيل الأربعين إلى ثلاثين وإلى عشرة، لأن الثلاثين يومًا هي الأيام التي عبد فيها القوم بعد موسى العجل، فكان ولابد أن تكون هناك فترة من الفترات؛ حتى يميز الله الخبيث من الطيب. {وَقَالَ موسى لأَخِيهِ هَارُونَ اخلفني فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين} [الأعراف: 142].
وهنا أمر ونهى {أصلح} هي أمر، و{لا تتبع} هي نهي، ونعرف أن كل تكاليف الحق سبحانه وتعالى محصورة في افعل كذا، ولا تفعل كذا، ولا يقول الحق للمكلَّفين: افعلوا كذا إلا إذا كانوا صالحين للفعل ولعدم الفعل، وإن قال لهم: لا تفعلوا فلابد أن يكونوا صالحين للفعل ولعدم الفعل، ولذلك أوضحنا من قبل ان الله ركز كل التكاليف في مسألة آدم وحواء في الجنة فقال: {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا}، وكان هذا هو الأمر. وقال: {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة}، وهذا نهي: {وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين}.
وكلمة {أصلح} تستلزم أن يبقى الصالح على صلاحه فلا يفسده، وإن شاء الله يزيد فيه صلاحًا فليفعل.
وقوله: {وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين} لأنه قول موجه لنبي وهو هارون، لا يتأتى منه الإِفساد، ولكنَّ موسى أعلمه أنه ستقوم فتنة بعد قليل، فكأن موسى قد ألهم أنه سيحدث إفساد، فقصارى ما يطلبه من أخيه هارون ألاَّ يتبع سبيل المفسدين، ولذلك سيقول هارون بعد ذلك مبررًا تركه بني إسرائيل على عبادة العجل بعد أن بذل غاية جهده في منعهم وإنذارهم حتى قهروه واستضعفوه ولم يبق إلا أن يقتلوه. {... إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه: 94]. اهـ.

.التفسير المأثور:

{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)}.
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ من طرق عن ابن عباس في قوله: {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر} قال: ذو القعده، وعشر من ذي الحجة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سليمان التيمي قال: زعم حضرمي أن الثلاثين ليلة التي وعد موسى ذو القعدة، والعشر التي تمم الله بها الأربعين ليلة عشر ذي الحجة.
وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال: ما من عمل في أيام من السنة أفضل منه في العشر من ذي الحجة، وهي العشر التي أتمها الله لموسى.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر} يعني ذا القعده وعشرًا من ذي الحجة، خلف موسى أصحابه واستخلف عليهم هرون، فمكث على الطور أربعين ليلة وأنزل عليه التوراة في الألواح، فقربه الرب نجيًا وكلمه وسمع صريف القلم، وبلغنا أنه لم يحدث في الأربعين ليلة حتى هبط من الطور.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن مجاهد {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة} قال: ذو القعدة {وأتممناها بعشر} قال: عشر ذي الحجة.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر} قال: إن موسى قال لقومه: إن ربي وعدني ثلاثين ليلة أن ألقاه وأخلف هارون فيكم، فلما فصل موسى إلى ربه زاده الله عشرًا، فكانت فتنتهم في العشر التي زاده الله، فلما مضى ثلاثون ليلة كان السامري أبصر جبريل، فأخذ من أثر الفرس قبضة من تراب فقال حين مضى ثلاثون ليلة: يا بني إسرائيل إن معكم حليًا من حلى آل فرعون وهو حرام عليكم فهاتوا ما عندكم فنحرقها، فأتوه بما عندهم من حليهم، فأوقد نارًا ثم ألقى الحلى في النار، فلما ذاب الحلى ألقى تلك القبضة من التراب في النار فصار عجلًا جسدًا له خوار، فخار خورة واحدة لم يثن فقال السامري: إن موسى ذهب يطلب ربكم وهذا إله موسى، فذلك قوله: {هذا إلهكم وإله موسى فنسي} [طه: 88] يقول: انطلق يطلب ربه فضل عنه وهو هذا، فقال الله تبارك وتعالى لموسى وهو يناجيه {قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا} [طه: 85- 86] قال يعني حزينًا.